مشهد 2: رعب طفولي
23:37 بتوقيت مكة + 1
الطفل، فيما بدا لي، لا يتجاوز السبعة أعوام. أخته تصغره بعامين أو أقل. لم أشهد بداية الموقف، لكن أخته تذمرت لوالدها من إزعاج أخيها، مما دعا الوالد أن يترك ما بين يديه من سلع، أحكم النظر في الطفل و بدأ يقترب منه و هو يزجره. لم يقترب كثيرا من ابنه، لكن الطفل تغير وجهه بشكل مخيف. و بدأ يحاول التبرير بينما يقترب منه والده؛ كلما اقترب والده أكثر، كلما ازدادت علامات الرعب وضوحا على ملامح الطفل و كلما قلت كلماته. توقف الأب عن الحركة. سكت الطفل. نظر الأب. زاد رعب الطفل. انصرف الأب.
لا أتقصد الحديث عن الآباء دونا عن غيرهم، لكن لم أستطع اليوم إلا أن أنتبه لوجه ذلك الطفل. رأيت الكثير من وجوه الأطفال المتذمرة، الخائفة، البائسة، ... ؛ لكن الرعب على وجه ذلك الطفل لم يكن طبيعيا، أبدا. رؤية وجهه يرتجف خوفا شدني للتفكر بأشياء كثيرة؛ بالتربية، بالأبوة، بالرجولة، بالطفولة.
**
الأجيال السابقة كانوا يؤمنون بمبدأ الضرب كطريقة فعالة للتربية الفعالة. و لذا كان يوصي الأهالي مدرسي أبنائهم: "اللحم لك و العظم لنا." و رغم عدم شرعية مبدأ الضرب "أخلاقيا" أو على الأقل أثره الجليّ جسديا، إلا أن توهم أثره النافع كان كافيا ليشجعهم على ممارسة الإيذاء الجسدي، العنيف في أحيان كثيرة، اتجاه فلذات أكبادهم. لا أشكك في نوايا من اتبع ذلك الأسلوب في تربية أولاده فيما سبق، لكن أظنه أصبح من المؤسف و المزري أن الكثير من الآباء و الأمهات لا يزالون يمارسون تلك السياسة المجحفة في حق أبنائهم و حقوق طفولتهم رغم كل التحذيرات و التأكيدات في عصرنا التي تشير أن العنف لا يؤدي لخير، و أن الإيذاء الجسدي، و إن "بدا" أثره "إيجابيا" في حينه، يشوّه الطفل بشكل دائم لا يمكن تقويمه مهما حدث.
الذي يجهله الكثير من أولئك "المربون" هو أن ممارسة العنف اتجاه الابن لتربيته تؤكد للابن بطريقة أو بأخرى أن أفضل الحلول و أيسرها هي العنف. ليس هذا فحسب، بل الإشكال الأكبر أن على قدر كثافة العنف الذي يواجهه الطفل، على قدر قلة اكتراثه بالقوانين و الطرق التربوية الأخرى.. لأنه اعتاد ألا يستمع إلا "بالعنف".. أو: سيواجه عنفا على أي حال، فلمَ يحرم نفسه مما يريد؟
و لعل من المضحك المبكي، أن من يضرب أطفاله يكن عادة ممن ضُرِب في طفولته، ظنا منه أن "رجولته" لم تكن لتكتمل من دون عنف مقرف عاشه في طفولته. متجاهلا أن ذلك الضرب نفسه حرمه من براءة طفولته و متعة مراهقته. متناسيا أنه مهما حاول تبرير عنف لاقاه ممن يحب، لا يستطيع أن يبدد ألما و رعبا و كرها أغرقوه ليالي كثيرة و لا يمكنه أن ينسى تفاصيل تلك الحوادث الأليمة.
**
أعرف أن كلامي قد يكون ألغازا مبعثرة أو رموزا مشفرة، لكني أريد بكل صدق أن أهمس لكل أب لكل أم لكل مربي:
اسلك أي الطرق التي تشاء في تربية من هم تحت إمرتك، لكني أرجوك ألا تسلك طريق العنف، سواء كان جسديا أو نفسيا. أعاهدك، أمام الله، أن طفلك لن ينسى أبدا عنفا مارسته اتجاهه، و سيبقى يحترق بذكريات مريرة تراوده بإذن و من دون إذن.. ذكريات ترسم إشارات استفهام كبيرة حول حبك له و صدقك في مصلحته.
مهما كانت الحاجة التي تراها لسلك العنف مع طفلك، تذكر أن "احتراما" تجنيه من رعب تسقيه لأبنائك لا يختلف كثيرا عن احترام يجنيه السفاح بمهارته في القتل. و كن على يقين أن خيرا "تنميه" بعنفك، ليس بخيرية و لا دوام خير تنميه بصبرك و سلكك لطرق تربوية أخرى أفضل و أنفع.
رعب تنميه في طفلك و طفولة تحرق براءتها في جنباته أو متعة تقضي عليها في حياته.. كل هذا من الأمور التي لا يمكن أن يصلحها الدهر أو يمحوها.
طفلك يستحق أن تبذل جهدا أكبر منك لتربيته و تؤدبه و تعلمه دون أن تمارس العنف اتجاهه.
صِبا
___________
* مصدر الصورة.