.

خطرات متضررة من أمطار جدة

Friday - 28 Jan, 2011
21:22 بتوقيت مكة + 1
صُنِف في ملف : خارج السياق

يوم حادثة المطر، كنت ألجأ لكتابة خطرات كي أشغل نفسي عن القلق. على ساعات متفرقة خلال الـ 48 ساعة من بداية هطول المطر صباح الأربعاء. لم أوقت الخطرات.. لأني كنت أكتب فقط لكي أنسى.

اتخذت قرار نشرها على المدونة، رغبة في مشاركة بعض مما كنا نعايشه يوم المطر. كي يعي من في الخارج أن الحال أسوء بكثير مما يطلعكم عليه الإعلام. و من المهم أن يعي القارئ أن ما مررتُ به لا يعدل عُشر ما مر به من كان عالقا في الخارج.. لكن لا أستطيع أن أخبرك إلا بما مررت به أنا.

للمصداقية، أجريت بعض التعديلات البسيطة على الخطرات لإزالة الأسماء.. وما يتعلق بها. و انتبهت الآن، عند النشر، أني أخطأت العد عند 8 و 9. لكن الأرقام بعدها كثيرة، و لا طاقة لي لتغيير أي شيء آخر.

**

-1-
المطر يشتد ساعة، و يخف ساعة
ما أحلى المطر.
يا ربّ اجعله خيرا. يا رب اجعله رحمة.

-2-
المساحة الخلفية التي يطل عليها مكتب إحدى الزميلات لا توحي بخير.
المطر بدأ يتجمع بشكل مقلق.
كيف تكون الشوارع؟

.. سأخبر الزميلات أننا نحتاج أن نسرع في الذهاب إلى المنزل.

-3-
إدارة العمل تحذرنا أن نخرج الآن. يقولون أن الطرق مزدحمة غارقة.
بقاؤنا في المبنى، على حد قولهم، أكثر أمنا.

لستُ مقتنعة. الشوارع ستزداد غرقا في وقت لاحق.
لا منطق من بقائنا عالقين.

-4-
إحدى الزميلات عادت. الآن. ملابسها مبللة.
كانت قد خرجت عند بداية المطر، قبل أن يشتد.
عادت، بشق الأنفس، بعد أن علقت مع سيارتها في الشوارع الغارقة.
عادت مشيا.

يا ربّ استر.
الحمد لله أننا لم نخرج. الحمد لله.

-5-
أعلنوا للتو أن لا أحد مسموح لها بالخروج.
حتى إشعار آخر.

-6-
الوضع يبدو أسوء مما كان يتوقع أحد.
الأسقف بدأت تسرّب الماء إلى الداخل.
أوراق امتحاناتي تتبلل.

أيسوء الحال أكثر و نغرق جميعًا في المبنى؟
يا ربّ ارحمنا.

..ما دعاء الغرق؟ أيوجد دعاء للغرق؟
أتكفي الشهادة؟

-7-
والدي اتصل للتو. أراد أن يطمئن.
كنت أرجو ألا يسمع صوت رجفتي. ألا يشم رائحة خوفي.
أخبرته أني بخير. كلنا بخير. كلنا آمنين.

ذكّرته في آخر المكالمة أني أحبه، بشكل عرَضي.. كي لا يخاف.
ليتني أخبرته أكثر. ليتني أخبرتهم كلهم أني أحبهم أكثر.

.. ليتني لم آتي لجدة!

-8-
قرروا أن الوقت قد حان لنعود. الحافلات في الخارج.
الحمد لله. يا رب نصل سالمين.

أرسلت لوالدي أخبره أننا في طريقنا للعودة.
ليطمئن.

-9-
نزلنا من الحافلة قبل أن نركب!
وردت أخبار تفي أن الوضع أخطر من أن نجازف.
سنبقى في مقر عملنا، حتى إشعار آخر.

لن أخبر أبي.

-8-
انتهت ساعات الدوام الرسمية.
الهواتف بدأت تفرغ من الشحن. الكل يبحث عن شاحن.
الكافتيريا ازدحمت.

الأخبار التي تردنا من الإنترنت و الهواتف متضاربة
لكن الكل متفق أن الوضع مزرٍ كثيرا. أن الشوارع ليست إلا مصائد موت.

أختي تتصل.
لن أجيب. لا أظن أني أستطيع السيطرة على نبرة الخوف في صوتي.
سأرسل لها رسالة أخبرها أننا على أحسن حال. في طريقنا إلى المنزل.

يا رب اغفر لي.

-9-
الأخبار على عرب نيوز تقول أن 77 لاقوا حتفهم.
الأخبار على تويتر تحذر من انهيار أحد السدود.

متى كانت الأخبار تأتي بخير؟
لن أتابع. لا أريد أن أموت مرتين.
مرة عند سماع الخبر. و مرة عندما أموت حقيقة من المطر.

(ما حدا بيموت ناقص عمر)
أشهد أن لا إله إلا الله.

-10-
محاولة أخرى للعودة إلى البيت باءت بالفشل.
تجمعنا. ركبنا. و عدنا بخفيّ حنين.
السائق يؤكد أنه لا يملك القدرة على المشي في الشوارع دون أن تغرق الحافلة.
المسؤولة رفضت أن نذهب، رغم رغبتنا بالمجازفة.

أنا مرهقة.
أنا جائعة.

سأخبر أبي أنني "قررت" البقاء مع زميلاتي في المبنى. لكننا بخير.

-11-
يا ألله. كم كنت غبية حين ظننت نفسي قد "تعاطفت" بما فيه الكفاية مع أهالي الجدة العام الماضي.
حسبت أني تفهمت حالهم بما يكفي.

لا أحد.. لا أحد إطلاقا.. قادر على استيعاب الرعب الذي نعيشه بسبب ساعتي مطر.
لا أحد سوى سكان جدة.

-12-
الساعة تجاوزت العاشرة مساء الآن، و لا زلنا عالقين في المبنى.
الكل منهك. نفسيا و جسديا.
الكل بدأ يبحث عما يشغل وقته كي لا يشغله الخوف.

أخبرونا أن نخلي الطابق الأرضي، تحسبا لحدوث أي شيء مفاجئ.
المطر قد يهطل مرة أخرى.. في أي لحظة.

-13-
بحق الله، كيف تمتلئ قلوب آلاف المسلمين بالرعب على بعد ساعة من أطهر بقاع الأرض؟
كيف يتحول حال مدينة في دولة غنية إلى الحال الذي نحن فيه الآن؟

ألم ينهى الإسلام عن إدخال الرعب على قلب مسلم؟
كيف برعب تعشعش في قلوب آلاف من المسلمين؟

.. حرام.

-14-
أحضروا لنا طعاما من الخارج و ما يكفينا من الشرب.
لا مفر من قضاء الليلة هنا. كلنا عالقون.
ننجو معا. أو نغرق معا.

-15-
أليست جدة من أهم الموانئ في السعودية؟
لمَ لا يكترث لسلامتها أحد؟

لننسى السكان.
البلد تتدمر فعليا من ساعتين مطر.
شوارعها تُحفَر. تتمزق.
مبانيها تتهدم. تسرب المياه.
كل شيء فيها يتعطل.. سوى الخراب.

أيعقل أن يكون هذا حال ميناء مهم في دولة غنية؟

-16-
زميلتي نامت على أرض مكتبها. وجدت مخدة عريضة.
أنهكني النعاس. لكن لا أستطيع أن أنام خارج منزلي.

يا ألله.. أسمع صوت طفلة تبكي بحرقة، تخبر أمها:
"يا ماما بطني.. يا ماما بطني"
لم تتوقف عن البكاء و الشكوى رغم أمر أمها.

أين يذهب من جرّع تلك الأم و طفلتها كل هذا من الله؟

-17-
أمي طلبت من أختي أن تخبرني عبر الإيميل أن أتذكرها حين أريد أن أقدم على أي شيء جنوني.
أنها تدعو لي في سجداتها .. أنها تحبني.

لا أعرف كيف أطمئنك يا أمي و قلبك يعرفني أكثر مني.

سأحاول أن أخبرها أن حالنا مطمئن. أننا كلنا بخير.
و.. أنني سعيييدة لأنهم يعطوننا الطعام "ببلاش".

أحب أن أضحك أمي.
يا ربّ، لا تجعلني سببا لغير سعادتها ما حييتُ.

-18-
الكثيرات لم يستطعن النوم.
يدرن في المبنى، يتحادثن.
يحاولن تجاهل ما قد يحدث لنا، في أي لحظة.
منهن بدأن بمشاهدة فيلم ما.
أخريات يلعبن كرة المضرب.

لم أعُد أستطع أن أحارب النوم.
أنهكني البكاء.. و انتظار الموت.

-19-
أذن الفجر. غفوت بضع ساعات على الكرسي دون أن أشعر.
قضيت ما يقارب الـ 22 ساعة خارج منزلي.

..يطلبون منا أن نجتمع في الأسفل.

-20-
الدفاع المدني في الخارج ينتظرنا بحافلات كبيرة.
وزعونا تبعا للمناطق.
سيوصلون كل واحدة منا عند باب بيتها.

.. قد تأخذنا الرحلة ست - سبع ساعات مع سوء أحوال الشوارع.
أعدادنا كبيرة.

-21-
جلست في الأمام.
زاوية الحافلة تقطر ماء يخر علي.. لا بأس.
أريد أن أرى كل شيء بوضوح.. كل الشوارع.

-22-
يا ربي رحمتك.

لا أظن الإعلام يمكنه تهويل الضرر، لأنه على أي حال مهول!.
السيارات و الشواحن بكل أنواعها و أحجامها ملقية في كل مكان في الشارع..
الشوارع نفسها "ممزقة" كأنها تركيبة فُكَت بعض أجزائها..
الحفر العميقة التي غرزتها الأمطار في الشوارع مرعبة. كدنا نموت منها.

حرام يكون هذا حال "عروس البحر الأحمر".. حرام.

-23-
أخبرنا رجل الدفاع أنهم حاولوا سحب الماء من الشوارع. لكنهم لم يتمكنوا من تغطية كل مكان.
أنهم انشغلوا مساء البارحة يحاولون إنقاذ عوائل من الغرق في مكان ما.
لم أنتبه للتفاصيل. المهم أنهم أنقذوا المتضررين.

-24-
بعد مشقات كثيرة، أخيرا عدتُ إلى المنزل.
يا ألله.. اشتقت لجدران المنزل!

إدارة المجمع السكني حضروا جيدا تحسبا للمطر.
لم يتبلل منزلي بنقطة ماء، رغم أنه على الطابق الأرضي.
سأتصل بأهلي.

-25-
نمتُ طويلا.. طويلا جدا.
علي قضاء بعض الصلوات.

علي أن أجري بعض الاتصالات لأعرف حال البلد.
حال الزميلات.

-26-
إحدى المعارف غرقت سيارتها مع عائلتها.
أخبرتني أن الماء كاد يصل للرقاب.
بينما ينتظرون الموت، اتصلت بأمها و أولادها تخبرهم أنها تحبهم.
أن يسامحوها.

لكن لطف الله شملهم. انتبهت لهم سيارة دفاع مدني و سحبوا السيارة من الماء.

-27-
متى يعي أهل جدة أن ملاحقة الفساد لن تأتي بخير؟
أن ترميم البلد و تحضيره للمطر أهم من محاسبة من هدمها؟

.. ياربّ قبل أي كارثة أخرى.
**

______________
* مصدر الصورة.