.

النُكَت و الكُرَب

Tuesday - 1 Feb, 2011
01:00 بتوقيت مكة + 1
صُنِف في ملف : فوضى مبعثرة

في الثقافة العربية، ينتشر تعبير شائع للدلالة على عظم سوء حالٍ ما حين يوصف بأنه: "مضحكٍ مبكٍ". لا أدري أصل الربط بين الأمرين لوصف حالٍ سيء، لكن لعله نابع من فكرة الشعرة التي تربط بين النقيضين.. أو كما كانت تحذرني أمي: "ما زاد عن حده، انقلب إلى ضده."

لستُ هنا للحكم على موروثنا الشعبي أو الثقافي، و لا أخالف فكرة أن يكون الشيء مزريا لدرجة تستدعي الضحك. لكني أكاد أجزم أن أجدادنا حين سنوا لنا هذا التعبير لم يكن في حسبانهم أن يشمل المعنى نطاقا أوسع من الضحك، اختراع النكت و تحول الأمر إلى مهزلة تضحك الكبير قبل الصغير.

قبل أن أشرح لك وجهة نظري، دعني أسوق لك مثالا من النكت التي تلقى في كارثة جدة و أمطارها، يقولون مثلا: "غيروا اسم نظام ساهر إلى نظام غاطس." و النكت غيرها كثير في الوقت الحالي، سواء على جدة أو مصر أو تونس أو ما شابه. و لأكون صريحة معك، الكثير من تلك النكت مضحكة جدا تدل على ذكاء شديد لمخترعها و قدرته على اللعب على الكلمات و المواقف ليخرج بنكتة مضحكة.

و مع ذلك، أؤمن أننا بمجرد أن نحول أمرا ما إلى إناء نلقي فيه ما هب و دب من النكت، من باب "تخفيف المصيبة" أو "الانشغال عن النياحة" أو أيا كان، يتحول ذلك الأمر إلى مهزلة.. استهتار., أمر لا يتمتع بالجدية الكافية لنكترث له كما ينبغي. أعرف أن ارتباطنا بتلك الأمور الحساسة التي أطلق عليها الكثير من النكت لم يتحول -بعد- إلى نوع من الاستهتار أو المهزلة، لكني أؤمن أننا أقل إدراكا لأهمية تلك المسائل و جديتها حين يزداد احتكاكنا بالنكت -الطريفة- التي تستنزف جدية الموضوع و حساسيته... النكت، سواء شئنا أم أبينا، طريقة للإشارة أن الأمر مدعاة للسخرية.. مهزلة.

**

لا أدري لم أتخيل البعض يسرع إلى البحث عن صندوق التعليقات ليكتب ردا يخبرني فيه أن الانشغال بالنياحة ليس حلا أيضا. أو أن التنكيت لا يوحي بالضرورة بالتقليل من أهمية الشيء. لذا دعني من بعد إذنك أن أتناول كل نقطة على حدا و أوضحها لك من جهة نظري.

حين أدعوك لإعطاء الأمور الحساسة أهمية أكبر من أن تطلق عليها النكت أو تسخر بها، أنا لا أطلب منك أن تنشغل بالنياحة أو ذكر الأطلال أو التحسر على مجد قديم لا زلنا نوغل في خسارته. إنما أنا أطلب منك أن تعطي الأمر الاحترام الكافي و الجدية المطلوبة ليترفع عن النكت. ناقش أسبابه، اطرح حلولا له، تناول آثاره.. افعل ما تريد بشكل يقدم نفعا إيجابيا للمعضلة أو المشكلة.. لكن لا تختلق طرائف و نوادر و نكتا تنسينا حساسية المسألة.

أما إن كنت تتساءل عن مدى صحة مبدأ تحول الأمر إلى مهزلة بكثرة التنكيت، دعني من بعد إذنك أسألك: هل كنت لتطلق النكت على حادثة الرسومات التي أسأءت لرسول الله عليه السلام؟ .. أنا لا أشبه هذه الحادثة بقضايانا الآن، مقام رسول الله عليه الصلاة و السلام أجل و أكبر من كل هذا.. لكني أناقش المبدأ. رفضك للنكت في هذه القضية يدفعه اعتقاد بأن هذه المسألة أطهر / أسمى / أعلى من أن ينالها النكت. مما يعني أن النكت بأي حال كانت تنزل من قدر المنكت به -إن صح التعبير- و تجعله يبدو بهيبة أقل و أهمية أقل. و ليست كل الأمور المحورية التي نمر بها، كالتي تحدث في الزمن الحالي، تستحمل أن تبدو بهيبة أقل مما يجب.

**

قبل أن أختم بقول جبران، لعله من المناسب أن أستشهد بعبارة أخرى موروثة من ثقافاتنا نقول فيها: "لكل مقام مقال." .. النكت مفيدة و ممتعة، لكن في مقامات محدودة و معينة.. مقامات لا تشمل أمور مهمة / حساسة/محورية كالتي نعاصرها الآن. لا أقف ضد الضحك على سخريات/تناقضات تعج بها المصائب التي نمر بها من فرط ما تبكي، لكني أدعوك ألا توظف حسك الفكاهي في خلق دعابات و نكت جديدة تشعرنا أن الأمر أقل أهمية من أن يؤخذ بجدية حاسمة.

يقول جبران في "العواصف":

"أنا أبكي على الشرقيين لأن الضحك على الأمراض جهل مركب.
أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة لأن الغناء أمام المصيبة العمياء غباوة عمياء."

صبا