.

البنك هـ: دروس كثيرة، و شخص يُشكَر

Monday - 19 Mar, 2012
19:41 بتوقيت مكة + 1
صُنِف في ملف : فوضى مبعثرة

أمضيت الأشهر القليلة الماضية أتلوى كأجنحة البصل النية على مقلاة ساخنة في رحلتي مع البنك هـ. قصة طويلة لن أرهقك بها، كل فصل من فصولها كان شبيها جدا برحلة تعريفية لجهنم، النسخة الدنيوية منها أعني. تم تقاذفي فيها من فرع لآخر، من موظف لآخر، من قسم لآخر ككرة سلة لا يستطيع اللاعب أن يبقي عليها لأكثر من بضع ثوانٍ. وعد هنا، وعد هناك.. و لا شيء يقدم لحل مشكلتي، التي لم أبدأها أصلا! كل ذنبي أني بكل غباء قررت في يوم عاثر أن أفتح حسابا في البنك هـ.

تجربتي مع البنك، كانت مريرة منذ اشتراكي معهم. أشد ما فيها و آخره أني اضطررت للعيش تحت رحمة الريال و الدرهم لفترة لم أكن أعلم لها نهاية. كنت لا أحمل فيها من المال سوى ما عادة يكفيني بالكاد كمصروف يومي. في بلد غريبة دون سند أو شخص احتياطي يملأ الفراغات الطارئة. البارحة، بعد أن وصلت لقعر الإفلاس، جاء الفرج. لأن شخصا واحدا، من عشرات الأشخاص الذين تعاملت معهم في البنك، اختار أن يحترم وعدا أعطاه. إرهاقي له بكثرة أسئلتي و شكواتي المتواصلة لم تثنيه عن تأدية وظيفته بأكمل وجه رغم مشاغله، كرئيس فرع مزدحم. وعدني، و احترم وعده. شكرا لك أ. ريان بخاري. أسأل الله أن يفرج لك الكرب و يهون عليك كل عسير و يعلي قدرك و مناصبك. قدرتك على تأدية عملك بأمانة و تفانٍ شيء يُقتَدى به.

**
في رحلتي لاستلام المبلغ المستحق، قضيت الرحلة أتفكر بحالي. قبل ما لا يزيد عن الساعة، كنت أحسب خطواتي/احتياجاتي فيما تبقى من أيام لاستلام الراتب (أسبوعين). أنزع اللقمة من فمي كي أبقيها ليوم آخر قد أكون به أكثر جوعا. أدعو سرا بدعاء الاستخارة قبل أن أجري أي اتصال هاتفي أو أرسل رسالة نصية قد تكلفني أكثر مما أحتمل. أصبح كوب القهوة اليومي، الذي كنت لا أفكر مرتين في طلبه أكثر من مرة، مظهر ترف لا أقوى عليه. محفظتي المسكينة لم تسلم من يدي كل ساعة، أعيد عدّ ما تبقى فيها لأحسب من جديد كيف سيكفيني لآخر الشهر مبلغ كنت أصرفه بكل يسر و "بدون بعزقة" في يوم واحد. و غيره أشياء كثيرة.

.. و مع ذلك، عِشت!. وعيتُ أني كنت أعيش ترفا حُرِم منه غيري كثير، و مع ذلك لم أقدر ذلك. و كأن حالي مع الراتب كحال قولهم "على قد لحافك مد رجليك". مع كل زيادة في الراتب، تزداد "احتياجاتي" التي "لا أستطيع العيش دونها" .. و يصبح من المستحيل أن أقوى على العيش مكتفية بالراتب السابق. مما دعاني للتساؤل: لمَ يعلمنا المثل أن نمد أرجلنا على مد لحافنا؟ لمَ لا يعلمنا أن نمدها بما يكفينا، بغض النظر عن طول اللحاف؟ إن قصر، سعينا جاهدين لمده. وإن طال، احتفظنا بما تبقى من اللحاف لغيرنا أو لأوقات أخرى. ما الذي يمكّن عامل النظافة من العيش على أقل من ربع راتب مدير بنك، و مع ذلك قد يحمل مدير البنك على عاتقه ديون كثيرة و يثقل كتفه بمصاريف كبيرة؟ .. هل أحلامنا مكلفة لهذا الحد؟ أم أننا لا نتقن تحقيقها بأقل تكلفة ممكنة؟

حين وصلني الفرج في آخر لحظة، آخر رمق.. شعرتُ أني تلقيت صفعة كبيرة: "كيف يقطع ربٌ كريمٌ عبدًا من عباده؟" لمَ حملت هم اليوم و الرزق رغم أن الله بواسع علمه مطلع على أمري رحيم بحالي؟ .. و كيف غفلت عن إحكام صدق التوكل عليه في طلبي و سعيي؟ هل كنت لأصاب بالذعر الذي تلبسني لو أني صدقت في توكلي عليه بعد طلبي للأسباب؟

و بعد أن تذكرت أن الغربة علقم، وعيت الآن المشقة التي مرّ بها والديّ في غربة طيلة عمريهما كي يؤمنا لي و لإخوتي معيشة هنية، بعيدا عن أهاليهما و طقوس حياتهما القديمة. الآن بدأت أن أفهم لمَ يصرّان بكل الطرق الممكنة أن "تراب البلد" و "هوا البلد" .. "غير". ليس للبلد ذاتها، بل لأشخاص تنفست ذلك الهواء و أقدام مشت عليها؛ لمعيشة، مهما صعبت، تظل ممكنة و محلولة في ظل البلد. أي تضحية قدموها لنا حين تركوا حياة مألوفة بين أحبتهم ليتكبدوا عناء غربة مظلمة متسوحشة قد تعود بهم لنقطة الصفر في لحظة واحدة؟ ..ربي ارحمهما كما ربونا صغارا و رعونا كبارا. و اجعلنا لهما قرة عين. و اجزهما عنا خير الجزاء.

**

لكل موقف نمر به حكمة، غاية. لكنا كثيرا ما نغفل عن استخلاصها أو البحث عنها، لأننا نكون مرهقين بثقلها و مشغولين بصعوبة التعايش معها. و كثيرا ما تمر المواقف / المصائب / المشاكل دون أن نعطيها حقها من التفدير أو التفكير بأبعادها و الدروس التي قد نتعلمها منها. فنحن أولا و أخيرا، كثيرا ما نتجاهل الدروس التي تقدم لنا على طبق من ذهب مما سبقنا في التجربة و نكتفي بالتعلم من "كيسنا".

علمتني رفيقة ذات مرة أن أبحث عن الحكمة في كل شيء يحدث لي، مهما صغر أو كبر. لأن قضاء الله للمسلم كله خير و لأننا لا نعيش عبثا. بحثي عن الغاية من المصائب التي أمر بها كثيرا اما يخفف عني ثقلها و يكسبني القدرة على التفاؤل بقرب نهايتها .. أو على الأقل بفائدة تذكر منها. و لذا وددت اليوم مشاركة تجربة مررت بها لعلها تدفعك للتفكر بتجارب مررت بها أنت و لم تلقِ لها بالا أو لم تحاول أن تستخلص منها فوائد تصب في مصلحتك، مهما صغرت تلك الفوائد.

صبا

_______________
* مصدر الصورة.