الطاولة الزجاجية
23:43 بتوقيت مكة + 1
منذ أشهر عديدة، أثناء تحضيراتنا المنزلية لزيارة الضيوف، كنت أتراجع للخلف بينما أحاول تجنب أختي. دون أن أنتبه، اصطدمت بطاولة القهوة الزجاجية و بدأت أقع عليها. و لطبيعة أختي الهادئة -بشكل استفزازي- في التعامل مع الأمور، جل ما فعلته أختي هو التنبيه اللفظي "صبا، لا تقعي.. صبا أعطني يدك" بينما أقع، حتى وقعت و اصطدمت بالطاولة! بعد صرختي، التفت كل من كان في الغرفة وقتها بالسؤال: "الطاولة.. هل انكسرت الطاولة؟" (حتى أنا!!) .. بعد الاطمئنان عليها -الطاولة أعني- و مضي بعض من الوقت، تذكروا أن يسألوني إن كنت بخير و تذكرتُ أن أشعر بالوجع!!
رغم أني على يقين أنه لو بدا لهم أن سوءا صابني، لانكبوا علي لمساعدتي، كما يفعلون دائما، لكن الموقف استدعاني للكثير من التفكر في كثير من الأشياء.. علاقتنا بالجمادات و حال الحكومات المختلفة و موقع الإنسان من الإعراب في معادلة الحضارة الحديثة.
**
اكتراثنا للطاولة الزجاجية كان أولى من الاهتمام بي / بصحتي، للوهلة الأولى. لأن الأذى علي لم يكن واضحا، و لأن الطاولة تلك كانت مما سعينا طويلا بحثا عنه لاقتنائه، تحلت الطاولة بالأولوية و الاهتمام. وجودي معهم مضمون دائما، بفضل من الله و نعمة، لكن وجود الطاولة كان مهددا. و في سياق آخر مختلف، قد يكون محلي أيضا مستعاضا بإخوتي و أخواتي.
و كذا حال بعض الحكومات، إن لم يكن أكثرها، مع كراسي الحكم و سلطته. شعوبهم ليست إلا موارد غير قابلة للنضب، مهما حدث لها، هي موارد قابلة على الاستزادة و التضاعف. لذا يكون تضرر الشعب و تأثره هو عارض جانبي لأشياء "أهم" تقوم بحماية "الموارد الأخرى" التي من المفترض أنها صُيِرَت لخدمة ذلك الشعب، بكل أفراده. لكنها سرعان ما تتحول لأشياء يُصيَر الشعب لخدمتها، فردا فردا، من هذه الموارد الكرسي و السلطة.
تركيز الاهتمام على الملموسات و الماديات يمتد لأكثر من مسألة حكم و كرسي سلطة و ينال من تفكيرنا كأفراد، كمجتمع. اهتمامنا بالأشياء التي نملكها / نلمسها بات أكثر من اهتمامنا بذواتنا و أنفسنا و الآخرين من حولنا. نقول مازحين أن وقوع شخص لا يستدعي سوى الضحك، بينما وقوع الهاتف يستدعي توقف نبضات القلب. لأننا بتنا في زمن لا تعتمد فيه قيمتك على الأشخاص من حولك، إنما على الجمادات التي تمتلكها. و بات مقياس الاهتمام بالشيء محسوبا بمقياس بطاقة السعر عليه.
اختلال مقياس أولوياتنا لا ينتج إلا عن تغافلنا عن حقيقة أن ما بحوزتنا من "أشياء مجانية" لا يمكن تقديرها بأي ثمن. اهتمامنا بتلك المجّانيات، إن صح التعبير، لا ينمو إلا حين تتطلب منا بذل شيء من الجهد أو المال للمحافظة عليها. سواء كانت هي حواسنا الخمس التي لا نستطيع العيش دونها، أو الاستقرار العائلي الذي يغمرنا، أو قلب أم يحتوينا، أو .... . و لذا تجد الكثير منا يقضي وقته تحسرا على أشياء (غير مادية) مضت / رحلت، بدلا من تقديرها و السعادة بها أثناء وجودها.
**
لا أعرف. لكن لعل ما أحاول أن أقوله:
أوطاننا لن تتعدل حالها دون تعدل حال عقلياتنا التي بنتها و رعتها... علينا أن نعي أن البشر هم هدف المعادلة، و ليس مجرد أحد عواملها.
صبا
_________
*مصدر الصورة