.

الدنيا خلصت، مرات كثيرة

Tuesday - 16 Aug, 2016
21:02 بتوقيت مكة + 1
صُنِف في ملف : زحمة البشر

image

كنت على جمر أنتظر العودة إلى غرفتي، إلى عائلتي. لم أكن حريصة على تجهيز حقيبتَي السفر بذكاء حلبي يضمن لي حزم كل مشترياتي الجديدة في حقيبتي التي كانت ممتلئة لحد التخمة عند قدومي للبلد. وصلت المطار. وقبل أن يقع اختيار موظفة التفتيش "العشوائي" علي حصرا من دون ٣ صفوف ممتلئة بالمسافرين الشقر، أودعتُ حقيبتي الكبيرة لدى موظفة التذاكر اللطيفة، والتي بكل أسف لم تغريها ابتسامتي العريضة لتغض البصر عن الوزن الزائد :(

بعد ١٣ ساعة قضيتها في صالات الانتظار وعلى متن الطائرات، وصلت لمنطقة استلام الحقائب. كان حزاما واحدا لكل الرحلات القادمة. وكرسائل "تم إيداع الراتب" التي تصل بكل عشوائية للهواتف، بدأت حقائب رحلتنا تظهر دون أي اعتبار لترتيب إيداع حقائبنا أو لفرط تعبنا. "الدنيا ليست عادلة" قلت لنفسي مواسية بينما أتكئ على حقيبة الجر التي أخذتها معي على متن الطائرة.

للمرة العاشرة، صحوت من غفوتي الواقفة. مضت أكثر من ساعة على وصولنا، لكن حقيبتي لم تصل. تفقدت الحقائب التي سحبها العمال في الزاوية، لا شيء. بحثت في الوجوه حولي، لست الوحيدة من تلك الرحلة في حلقة المنتظرين. اشتطت غضبا أو ربما تعبا، لا أعرف. لكني أصبحت أشعر برغبة عارمة بمعاركة "الذباب حول وجهي".

بعد ساعتين، اتجهت نحو جمع من المسافرين على رحلتي إذ التفوا حول ما يبدو موظفة مطار. "لا توجد المزيد من الحقائب من على متن رحلتكم. قد وصلتنا جميع الحقائب. اتبعوا العامل لمكتب تبليغ فقدان الحقائب."

رغبتي في معاركة الذباب احتدّت. قبل أن ألحق المجموعة للمكتب، طلبت من الموظفة توضيحا أفضل لسبب بقاء حقيبتي في قارة أخرى أو لسبب تأخر الإعلان. لم يكن طلبي باللطف المعتاد. محاولتها الهادئة جدا لشرح الأسباب الواهية لم تهدئ من غضبي. وأظنها شعرت بزيف الابتسامة المصطنعة التي صحبت شكري -الكاذب- لها.

الدنيا بدت وكأنها تضيق علي بكل ما فيها. صوت الحكيم العاقل في رأسي أصيب بالبكم بينما علا صوت المراهق الأزعر: "كيف عجزوا عن تحميل الحقائب الصحيحة؟ كيف يمكن أن يحدث هذا في القرن ٢١؟ في الحقيبة ما يزيد عن ## درهما من المقتنيات والممتكلات الثمينة، بعضها لا يتكرر، كيف يحدث هذا الاستهتار؟ ...." أسئلته الاستفزازية لم تتوقف بينما صوت الحكيم العاقل بدا عاطلا عن العمل، أو ربما غارقا في النوم من فرط التعب.

--

لن أزيدك مللا بتفاصيل ما تبقى معاناتي، لكنها، بكل فصولها، دفعتني للكثير من التفكر؛ خاصة حين حاول أن يهدئ أبي من روعي بسؤاله:

"أتعتقدين أنك أول من فقد حقيبته؟ أو حتى آخرهم؟ (الدنيا ما خلصت. ) هذه المشكلة كثيرة الحدوث لدرجة تخصيصهم لمكتب وخط ساخن خصيصا للتعامل مع هذه الحالات، إلا أنها حصلت معك الآن للمرة الأولى. سلمي أمرك لله ولا تحملي هما".

لمَ نشعر وكأن القيامة تكاد أن تقوم كلما نمر بتجربة شاقة أو نقع في مشكلة تبدو من دون نهاية؟ ...لمَ نختار أن ننسى أن أي تجربة/مشكلة نمر بها لابد وأنها قد حدثت حتما من قبل لأشخاص آخرين (على مر القرون) دون أن تنقرض البشرية؟

لم تلجأ عقولنا (أو ربما قلوبنا) لتهويل أبعاد ما نمر به؟ لم تؤكد لنا حصرية الموقف علينا وعدم تكراره فيما سبق؟ ....ألهذا السبب أيضا كثيرا ما نرفض نصح الآخرين؟ أو كما تقول أمي نرفض "التعلم من كيس" تجارب غيرنا؟ ..لأننا نرفض أن نعترف بتشابه حالنا بغيرنا، إن لم يكن يطابقه.

ماذا عن حجة "تغير الزمان وعوامله"؟ هل هذا التغير فعلا كاف لتشكيل نوع جديد من التجارب بطريقة لا يمكن أن تتكرر؟ ...لكن ألم تمر البشرية بما يكفي من التغيرات والتقلبات على مر العصور بشكل كاف لتعميم التجارب البشرية السابقة؟ هل يمكننا أن نقول أنه على الرغم من اختلاف طريقة تقديم هذه التجارب لنا أو طريقة تغليفها، إلا أنها -التجارب- في أصلها ثابتة قديمة كقدم البشرية؟ تملك حلا أكيدا متكررا؟

و... لمَ لم أشعر بهذا الكم الهائل من الغضب حين سمعت بقصص غيري المشابهة فيما سبق؟ ...كيف تجرأت في وقتها أن أعتقد أني قد وعيت كل أبعاد تجربتهم أو قد فهمت أثرها الكامل عليهم؟ بأي حق ادعيت تفهم حالهم -بالكامل- رغم أني لم أفعل شيئا أكثر من أن أستمع لهم؟

---

...لا أعرف. لكن لربما الذي خرجت به من هذه الفاجعة:
١. على الرغم من ادعاءات عقلي أن كل عائقة أواجهها ليست إلا طامة بشرية فريدة من نوعها ستؤدي حتما لنهاية الدنيا، فإن ما أمر به قد تكرر على مر العصور بما يكفي لتأكيد فرص تغلبي على أي من العوائق بسلام، دون الحاجة للأرق أو للضغط النفسي. (الدنيا ما رح تخلص)

٢. سماعي لتجربة شخص وتعاطفي معه لا يعطيني الحق أن أدعي تفهمي لحاله بشكل كامل؛ تعاطفي مع حال الآخرين لا يساوي أبدا فهمي لأبعاد تجربتهم بالكامل.

لا حرمكم الله سلامة حقائبكم :)
صبا