وجهي في مشكلة
17:56 بتوقيت مكة + 1
منذ صغري، تحيط بعيني جفون داكنة، أو كما يحب أن يسميها من يغار منها: "هالات سوداء"، فوق عيني وتحتها. كبرتُ و كبرَتْ معي. هي جزء من وجهي، كما هو أنفي وجبهتي وعيني. أو … هكذا كنت أظن.
في أول أيام وظيفتي الثانية، كان نومي متقلبا، مما زاد من وضوح جفوني الداكنة حول عيني. فقررت بكل سذاجة أن أخفف منها باستخدام الكريم الجديد (concealer) الذي اشترته أختي.. "خليني أجرب". بعد بضعة أسابيع، تفرغتُ للنوم، ونمت حتى ملني النوم في الإجازة الأسبوعية. عادت عيني لطبيعتها ولم أعُد أرى الحاجة لاستخدام الكريم. وجهي صاف مرتاح، لا يشوبه شيء. أو … هكذا كنت أظن.
أول من قابلت ذلك اليوم كانت زميلة أردنية. بدلا من التحية الصباحية، قالت: "شكلك قضيت الإجازة سهر، ليش؟ لا تضغطي على حالك، نحن في أول السنة" .. بدَت علامات الصدمة على وجهي، وكأنها رمت كوب ماء بارد جدا علي. لم أفهم. هل هي تتحدث بسخرية؟ أيعقل أن تكون جادة؟ …كيف أرد؟ هل أخبرها أني نمت لما يزيد عن ١٥ ساعة كل ليلة؟ …بعد ما يشبه دهرا من الصمت، قلت بضحكة باهتة: "شو بدك تعملي… هههه. إنت كيفك؟" …توالت التعليقات بعدها، من كل من هب ودب:
"هل كل شيء على ما يرام؟" …. "إنت مريضة؟" …. "شكلك تعبانة. عسى خير؟" … "إنت نمت امبارح؟" … "لا تضغطي على نفسك بالشغل يا صبا، لازم تنامي كويس."
حين وصلت لحد الاكتفاء، أيقنت أن وجهي في مشكلة. أسرعت للحمام لأرى المصيبة التي حلت على وجهي. بعد بحلقة دامت لما يزيد عن الدقيقة: لا شيء. وجهي كما هو، بكل تفاصيله وكل "أجزائه"، بما فيها الجفون الداكنة التي خُلُقت بها.
دخلت بعدها في صراع نفسي طويل دام لأسابيع. حتى استسلمت لمفهوم "الهالات السوداء"، ورضخت لفكرة أن جفوني "يجب" أن تكون أفتح، واعترفت "بحاجتي" الملحة واليومية لإخفائها بالمستحضرات التجميلية. ودخلت في دوامة كبيرة للبحث عن حلول دائمة تزيل عني ما كنت أعتبره جزءا لا يتجزأ عن وجهي. بحثت كثيرا. اشتريت العديد والعديد من الحلول "السحرية" التي لا تقضي إلا على راتبي. وزرت العديد من الأطباء: جلدية، عيون، تجميلي، حتى الأنفية! …كل شيء/شخص أخبرني: حالتك مستعصية. لا توجد أي حلول لمشكلتك الأزلية. لن تصبح جفونك أفتح قبل أن تشرق الشمس من المغرب.
————
لن أكذب عليك وأخبرك أني، بعد مضي خمس سنوات على اكتشافي المبهر، تقبّلتُ واقعي المرّ. ولن أسرد عليك محاولاتي الفاشلة في تفتيح جفوني في الصور، أو في تحديد الكمية الكافية من الكريم لتغطية جفوني بشكل "طبيعي" غير مصطنع، أو أو أو. لكني في لحظة صفاء اليوم، سرحت أتفكر:
قبل كل هذه المعمعة، لم أكن يوما ألقي لجفوني الداكنة بالا، ولا حتى أنتبه لها بشكل أكبر من انتباهي لأذني، ذقني، …. لم تكن مشكلة! كانت بالنسبة لي جزءا طبيعيا من وجهي يختلف عن وجوه الآخرين بشكل متوقع، أي كما تختلف ملامح وجهي الأخرى. لكن، بعد أن أخبروني أن وجهي في مشكلة، لم أعد أرى سوى السواد الذي يحيط عيني حين أرى وجهي في المرآة، لم أعد أرى سوى بشاعتي التي فرضتها تلك الهالات على وجهي.
سرحتُ أكثر أتفكر بالضغط النفسي المرعب الذي تُحاصَر به الفتيات اليوم وهن غارقات بالأخبار وصور الـ "قبل و بعد" التي تخبرنا أن طبيعة أجسادنا غير "طبيعية" … أو أن أشكالنا غير "صحيحة". تسلط الضوء على الاختلافات التي تَميزنا بها عن غيرنا، وتقنعنا أن كل اختلاف هو "عطب" لا بد لنا أن نتخلص منه كي تكون أشكالنا مقبولة للآخرين.
أصبح الكل بشعا يحتاج للـ "تحسين"، يحتاج أن يتحول لصورة نمطية واحدة تعكس تعريفا حجريا للجمال. حواجبنا يجب أن تكون بشكل معين. شفاهنا تحتاج أن تكون أكبر مما هي عليه. لفة وجوهنا تحتاج أن تكون أكثر حدة. ثنيات ابتساماتنا تحتاج أن تختفي. وغيرها الكثير الكثير من الـ "يجب" و الـ "تحتاج" .
وكأننا ولدنا بضائع معطوبة تحتاج للكثير من الرتوش الفنية والجراحية لتصل لوضع مقبول اجتماعيا.. وكأن بشريتنا أصبحت خاضعة لشيء يشبه "دفتر الاستخدام" الذي ترفقه الشركات مع أجهزتها؛ دفترا خاص بتعريف الجمال ويقيسه كما يقيس البياع أكياس الخضار: بميزان واحد ثابت لا يتغير مهما اختلفت محتويات الكيس.
لا تسِئ فهمي. أنا لا أنفي أن للجمال درجات، إنما أقول أن الجمال لا يمكن أن يكون محدودا بتعريف واحد/ثابت يخضع له الجميع. كاختلاف درجات الجمال، تختلف أنواعه كذلك. جمال س لا ينفي جمال ص، وجمال ب لا يفرض بشاعة د.
————
لا أعرف… لعل الذي أريد أن أقوله لكل أم/أب…، حتى وإن لم تبدو ابنتك تشكك بجمالها، كن على يقين أنها تعيش في زمن يحوّر تفاصيل جمالها الخاصة بها لبشاعة تحتاج أن تتخلص منها.
حتى وإن لم تبدو لك أنها تشكك بجمالها، أخبريها أنها جميلة بكل تفاصيلها؛ أن لفة وجهها تزيد عن القمر جمالا، أن شفتيها جميلة كجمال الكرز، أن عينيها تصيب اللؤلؤ بالخجل، ... .
أخبرها أن الله ميزها بجمال يخصها دونا عن غيرها، أكد لها أنها لا تحتاج أن تكون نسخة مملة عن جمال متكرر.
زادكم الله جمالا، خَلقا وخُلقا.
صاحبة الجفون الداكنة،
صبا