متى تنتهي صلاحية تقييم "كبسة زر"؟
00:04 بتوقيت مكة + 1
تربيت في مجتمع عربي. أسمع عن الأشخاص قبل أراهم أو أتعامل معهم، فيصبح من المستحيل أن أكوّن انطباعا صافيا عن شخص ما دون أن تشوهه آراء من سبقني إليه. والعجيب في الأكثرية من مجتمعاتنا هو حبهم لتطبيق نظام تقييم "كبسة زر" على الأشخاص: إما/أو. بمعنى أنه لا يمكن للشخص بنظرهم إلا أن يكون أبيضا أو أسودا؛ متدينا أو صايعا (؟)؛ ذكيا أو غبيا؛ غنيا أو فقيرا؛ ….. القائمة تطول، ويختفي منها الوسط ويستحيل لشخص أن يجمع بين الكبستين!
لم أكن أنتبه لاعوجاج مبدأ تقييم كبسة الزر. ولفترة طويلة، كنت أشعر أني أعاني من انفصام شخصية اجتماعي*. لست بصدد سرد أوصافها، لكن لكي تتضح فكرتي:
بكل سلاسلة أندمج مع مجموعة "متدينين"، نناقش تفسير آيات تحكي عن رحمة الله وكونها، برأيي، سر الكون. وبنفس السلاسلة أندمج مع مجموعة "صايعيين"، نناقش الفلم الأخير الذي أخرجه فلان وكيف أن تمثيل فلانة كان خطير، أو كيف أن المغني الفلاني صوته يروق لي أكثر من المغنية الفلانية.
بكل سلاسة أندمج مع مجموعة "مفكرين" يناقشون نظرة فريري Freire السوداوية عن التعليم، وبنفس السلاسة أندمج مع مجموعة "مراهقين" -فكريا- نضيع وقتنا في محاولة قلب زجاجة الماء بشكل يستحق التباهي به على يوتوب وأخواته.
بكل سلاسة أندمج مع مجموعة "مبذرين" نتهور بشراء كل ما يحلو لنا دون الحاجة له، وبنفس السلاسة أندمج مع مجموعة "أمهات" (وليس كلهم كذلك) نتفنن في تصيد العروض الاقتصادية المبهرة وفي انتقاء البضائع التي توازن بين الجودة والسعر المناسب.
…وغيرها كثير!
——
لفترة طويلة، لم أكن أفهم كيف يمكنني أن أجمع بين "أضداد" اجتماعية كثيرة؟ هل أنا مختلة فكريا بطريقة تجعلني أنساب بسلاسة أينما كنت؟ أم أني منافقة اجتماعية، لست إلا مجرد انعكاس خاوٍ لما حولي؟ أم ....؟
…قبل أن أجد إجابة ترضيني، بقيت لفترة طويلة لا أجد راحة أو رغبة في ممارسة الاختلاط الاجتماعي، بكل أنواعه، لأني كلما اختلطت بأصناف مختلفة من الناس ووجدتني أنساب معهم بسلاسة، كلما ازددت تشكيكا بنفسي، بهويتي. (…وبقدرتي أن أرتبط بشخص غير متضاد اجتماعيا!)
بعد تفكير طويل، وبعد تأكد كامل أني فعلا -وصدقا- أهتم بهذه "الأضداد" بشكل متساوٍ؛ توصلت لقناعة بأن: كلنا مجموعة أضداد اجتماعية، نختار أن نبدي منها بقدر يناسب الموقف الاجتماعي الذي وضعنا به؛ ليس رغبة في إخفاء الطرف الآخر، لكن رغبة في أن نشارك اهتمامتنا مع من حولنا، وفي أن نظهر ما يزيد قدرتنا على الاندماج اجتماعيا.
قد يقول شخص خال من الدهو… أعني خال من الأضداد الاجتماعية أن هذا نفاق اجتماعي يختار فيه الشخص أن يتخلى فيها عن هويته لكي يرضي من حوله. فأقول أن السؤال هنا، ليس تعريفك للنفاق الاجتماعي، إنما تعريفك للـ "هوية". من الذي سمح لك أن تحدد هويتي بين قطبين (إما أو)؟ لماذا بنظرك لا يحق لي أن تكون هويتي مرتبطة بشكل متساوٍ بأطراف متعددة تناسبني حتى وإن لم تناسبك؟ …عجزك يا صاحبي عن الجمع بين القطبين "المتضادين" بنظرك، لا يسلبني القدرة من أجمع بينهما.
———
بعد أن تشكلت قناعتي، برأت نفسي من الاختلال الاجتماعي، وأصبحت أكثر رغبة/قدرة على الاختلاط بالخلق، بشتى أصنافهم. والأهم من ذلك لا أخجل ولا أشعر بالذنب من إظهار اهتماماتي المتنوعة (أو المتضادة في نظرهم)، ولا أكتفي من محاولتي أن أتعلم أكثر عنها.
و كذلك، بدأت محاولاتي في نبذ نظام تقييم "كبسة الزر" في محيطي. أحاول جهدي أن أذكرهم -كلما بدأ التصنيف الاجتماعي- أننا لا نستطيع تقييم الأشخاص المعنيين بناء على موقف واحد، أنهم قد يبدوا لنا منهم من الأوصاف الأخرى (أو المضادة) ما يثبت لنا خطأ حكمنا المبدئي. وأذكرهم كيف أننا نجمع من الأضداد ما يكفي ليشجع الآخريين ليصدروا أحكاما خاطئة علينا أيضا. —لا أتوقف عن سرد الأمثلة إلا بعد أن يبدأوا بهز رؤوسهم بالموافقة
———
…أما بعد، وددت أن أقول لكل مجموعة أضداد:
مرحبا بك معنا! …ضع يدك بيدي، ولنبدأ بدفن نظام كبسة الزر في مجمتمعاتنا.
دمتم مغمورين بسعادة أضداد لا تنتهي،
صبا، بكسرة على الصاد ومجموعة أضداد ؛)
________
*لا أعني الاستهزاء بالمرض النفسي ذاته، أو التقليل من قدره.
**مصدر الصورة [رابط]